قصة قصيرة أم رواية
مقال للروائي الكندي جريج هولنجشِد *
يسود اعتقادٌ شائعٌ بين الكتّاب أنهم عاجلا أم آجلا سينتقلون من مرحلة القصّة القصيرة إلى مرحلة الرواية . عندما وصف جون شيفر** نفسه بأن أقدم قاصّ على قيد الحياة علمنا كلنا ما كان قصده. (فالعمر والتقادم لا يعنيان بالضرورة أن يصبح القاصّ روائيا). لكن هذا الانتقال هو قرار تسويقي لدى معظم الكتّاب وليس قرارا أدبيا ً فنيا ً ، وهذا لأن متطلبات ومعطيات كلٍّ من النمطين السرديين مختلفة تماما عن الأخرى. فالقصة القصيرة تشبه القصيدة أكثر مما تشبه الرواية.
الاختلاف الرئيسي فيما بين القصة القصيرة والقصيدة الشعرية هو الوزن أو مقاطع الأبيات. هذا في حين أن الفرق الرئيسي بين الرواية والقصة القصيرة لا يكمن في طول السرد وعدد الكلمات. فالرواية ليست قصة ً قصيرة طال سردُها ، رغم أن كلّ قاص يحلم بأن يبلغ بقصته رواية ًبهذا الشكل. كما أن الرواية ليست خيوطا قصصية أعمل فيها الكاتبُ إسهابا وإطرادا لتطول، فواحد من أول دروس الكتابة التي يتعلمها القاص هي أن الرواية الجادّة المتقنة لا تحتمل مكانا للصخب أو للإسهاب المفرغ.
الفرق الرئيسي بين القصة القصيرة والرواية ليس في طول السرد، بل هو في حجم ووزن المعنى المحمول في كل صفحة وكل مشهد من السرد الطويل. فعِظم حمولة السرد من الكلمات ليست هي ما يؤدي إلى تشعّب الأحداث في الرواية، بل هو المغزى بعيد المرمى الذي يربط هذه الأحداث ببعضها.
إن القصة القصيرة الجيدة تحمل معنىً غير واضح لقارئها، ولا يمكن أن يجرّده بسهولة، وهذا عكس ما يجب في الرواية، حيث المعنى مخزونٌ في تفاصيل النص بشكل لايفصح عن ذاته. فالمشهد في القصة القصيرة – وهو قد يكون وحيدا فيها – يشكل قوة ً تركّزيّة جاذبة ، في حين أن المشهد الروائي يغزل الكثير من الطاقة السردية ليس فقط في إتجاهات الأمام والخلف في المعنى بل إلى الجوانب أيضا، إلى خارج النص باتجاه العالم الملموس، ليلامس منظومة المعتقدات العامة المسماة بالحياة الاعتيادية. وهذه الطاقة المغزولة قد لا تلتف حول المعنى بشكل يجعله مركزها، بل قد تنفتح إلى الخارج عن النص.
هناك أيضا عنصر الزمن بين النمطين السرديين. … ففي القصة القصيرة المتقنة تكون المعضلة في الزمن الحالي. وهي نقطة من الاتزان الكامل بين الماضي والمستقبل. وكل كلمة في النص، أو سببٍ في الإيقاع، أو نقطة إضاءة أو ظل، كلها تم استحضارها لترتكز على هذه النقطة. وكما يقول فرانك أوكونور " في القصة القصيرة المعضلة هي القصة". في حين أن في الرواية المعضلة هي المآل، ويقترب حدوثها كلما اقترب زمن السرد منها، فهي النتاج المنطقي لما أدّت إليه أحداث السرد قبلها. وبمعنىً آخر هي ما يحمله المستقبل من عواقب لبطل الرواية كنتيجة لمجمل خياراته الأخلاقية. إذن فالقصة القصيرة – كما القصيدة الشعرية- تركّز الأحداث في الزمن، في حين أن الرواية تمدّ أحداثها بالزمن الكافي لعرضها ، بالضبط كما هو التاريخ.
لهذا السبب نجد أن الكتّاب الأكبر عمرا يلجأوون إلى الكتابة الروائية. ذلك أن الحركة الذهنية عند الأكبر سنا تتباطأ بحيث أنها لا تسمح بالقفز بين الأحداث بشكل غير منظوم، فيصبح الكاتب مع العمر عالما بما لديه من مضمون ليكتب فيه ، وجوعه الروحانيّ أطفأه الوقت وتحوّلاته. فيتحول بحثه إلى المضمون الأخلاقي غير القابل للتحوّل بدلا من البحث عن نقطة الإتزان الكاملة. وبالطبع فإن خبرة العمر ترفد قدرة هؤلاء الكتّاب على العطاء الروائي. أم الكتاب المحدثين فنادرا ما يستطيعون الحفاظ على الرؤية اللازمة لكتابة رواية ، لكنهم يجيدون كتابة القصة القصيرة. كما أنهم يجيدون كتابة نمطٍ هجين غريب يجعل من القصة شبه رواية ومن الرواية ما يشبه القصيدة الطويلة. والمؤسف هو أن الكاتب ما أن يتمرس في كتابة الرواية حتى يكون قد فقد الروح الشاعرية المندفعة التي كانت تصقل كتابته في القصص. لكن لحسن الحظ يظهر بين الحين والآخر كتّاب ٌ ناضجون يجيدون القصة القصيرة الزخمة بدرجة عالية من الذكاء والاتزان ، لدرجة تدعو لاسقاط صفة "القِصَر" عن قصصهم. لأن قصصهم تكون تأريخا ً روحانياً في شكل سرد مركز وغير متشعب، وهو رصينٌ دون ثِقل، وغريبٌ رغم أنه عاديّ.
المقال منشور في الدورية الربعية لجامعة تورنتو خريف 1999.
* جريج هولنجشِد : أديب كندي، حاصل على دكتوراة في الفلسفة، درّس في جامعة ألبيرتا في إدمونتن – كندا. وهو متقاعدٌ الآن. نشر العديد من المجموعات القصصية والمقالات النقدية، كما أن له عدّة روايات.
** جون شيفر: قاص وروائي أمريكي عاش بين 1912 و 1982. حصل على جوائز أدبية.